دعونا نتفق هنا أولاً على نقطة مبدئية، وهي أن الأحداث الحالية التي تجتاح أنحاء من العالم العربي هي أحداث غير مسبوقة في نوعها وحجمها وأهدافها... على الأقل في هذا الجزء من العالم ككل. فمن تونس والجزائر في مغرب العالم العربي إلى لبنان وفلسطين واليمن في مشرقه، ومن هؤلاء جميعاً إلى مصر التي تمثل قلب العالم العربي ومحور ارتكازه، هناك حالة غضب عربي واضحة تتجسد أحياناً في صور ذات سمت احتجاجي عنيف. وهو الغضب الذي يرجع في ماهيته، وبالأساس، إلى شعور مزمن ومقيم لدى الشعوب العربية بأنها تعرضت للخديعة على امتداد الفترات السابقة، لاسيما بعد أن تحملت وصبرت طويلاً على أنظمة حكم اعتادت القول على الدوام إنها تحكم باسم الشعب، بينما كان البعض فيها منشغلاً بدعم المصالح الخاصة. واليوم عندما ننظر إلى تعبيرات الغضب الشعبية الواضحة وحالة الإحباط الكبير والظاهرة التي يستشعرها المواطنون العرب في كل مكان تقريباً، فإن السؤال الواضح والبسيط الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا استغرق الأمر كل هذا الوقت حتى يخرج هؤلاء الشبان في تظاهرات احتجاجية كتلك التي نشهدها اليوم في العديد من البلاد العربية؟ إن رياح التغيير الدراماتيكية التي أطاحت بالديكتاتوريات الشيوعية في أوروبا الشرقية، هبت منذ أزيد من خمسة وعشرين عاماً، حيث قادت إلى سقوط الشيوعية في أوروبا، وجلبت إلى مواقع الحكم في تلك الدول قادة المجتمع المدني المتعطشين إلى حكم ديمقراطي، من بولندا إلى تشيكوسلوفاكيا، ومن المجر إلى ألمانيا الشرقية. بل وقع شيء من ذلك حتى في روسيا نفسها التي لم تنجُ من رياح التغيير. لكن الديمقراطية لم تكن دائماً سهلة إذ صاحبتها مصاعب ومتاعب وتحديات قبل أن تتجذر وتتحول إلى بناء مؤسسي راسخ وقوي في بلدان أوروبا الشرقية. وحتى قادة الأنظمة الشيوعية السابقة الذين أعادوا تشكيل أنفسهم لمواكبة التغيرات الجديدة، لم يكن من السهل عليهم التخلي عن عاداتهم القديمة، ومع ذلك استمر زحف الديمقراطية لتصل أمواجها شواطئ أميركا اللاتينية، وليبقى العالم العربي وحده منكفئاً على نفسه وبعيداً عن التغيير، كحالة فريدة أو استثناء من تاريخ العالم! والحقيقة أن ذلك "الاستثناء" مفهوم إلى حد ما بالنظر إلى طبيعة الأنظمة العربية،وفي هذا السياق ربما تبرز مصر كمثال على النظام العربي، فعندما جاء السادات إلى السلطة بعد وفاة عبد الناصر عام 1970 قال إنه سيكمل مشروع سلفه، والحقيقة أنه انخرط في عملية تفكيك للأعمدة الأساسية التي قام عليها نظام عبد الناصر، وهي الاشتراكية في الداخل والقومية في الخارج، بل إن سياسة الانفتاح التي انتهجها عكست المبادئ الرأسمالية التي سادت في أميركا تحت مسمى سياسة الباب المفتوح. وعمل داخلياً على إعادة تشكيل البنية الاجتماعية المصرية بالتقليل من شأن الطبقة المثقفة والمؤسسة العسكرية، والإعلاء من قدر وقيمة طبقة رجال الأعمال الجديدة. وخارجياً عمل السادات على التقارب مع الولايات المتحدة، وعلى دعم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة مقابل تغاضي واشنطن عن الطبيعة غير الديمقراطية للنظام وأساليبه في التضييق على الحريات، فضلاً عن برنامج الدعم المالي السنوي نظير السلام مع إسرائيل. لكن اغتراب النظام عن الطبقة المثقفة في البلاد تزايد بسبب رفض هذه الأخيرة التطبيع مع إسرائيل، كما تصاعدت وتيرة الاختلالات الاجتماعية واستفحال الفقر وتزايد معدلاته بسبب ارتفاع كلفة المعيشة وتسريحات العمال التي فرضتها سياسة الخصخصة الممنهجة، لينفجر كل ذلك مبكراً خلال الانتفاضة الشعبية الشهيرة لعام 1977 والتي عرفت باحتجاجات الخبز. ورغم كل ذلك، فقد استمر السادات على سياسته بتوجهاتها آنفة الذكر، معتمداً على حملات موسمية لإسكات المعارضة. لكن تلك السياسات دفعت الشباب إلى الارتماء في أحضان التشدد الديني الذي كان وراء اغتياله في أكتوبر عام 1981. وحتى عندما تقلد مبارك الحكم، فإنه أمعن في ترسيخ سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة التي طالت كبريات الشركات الحكومية، وهو ما زاد في تضخيم صور ومظاهر الفوارق الاجتماعية، في ظل غياب برامج دعم حقيقية وفعالة، ليزداد الأغنياء غنى وينحدر الفقراء إلى مزيد من الفقر. وللتنفيس قليلاً من مشاعر الاحتقان لدى الشعب، تبنى النظام المصري سياسة تسمح بقدر من الانتقاد في الصحف، لكن ذلك لم يكن كافياً لاحتواء الغضب المتصاعد في ظل ارتفاع أسعار الغذاء وتفاقم الاختلالات الاجتماعية، وأخيراً شبهات التزوير التي شابت الانتخابات النيابية الأخيرة. لقد أبدت الشعوب العربية استعدادها للانتظار وإعطاء الفرصة تلو الأخرى لبلورة الإصلاحات السياسية المرتقبة وإحلال التغيير الاجتماعي، وهو ما ساهم في تحويل رياح الديمقراطية بعيداً عن المنطقة بعدما هبت على العديد من مناطق العالم. لكن بعد 25 عاماً على سقوط الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، وفي أغلب أنحاء آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، مازالت الإصلاحات السياسية المرتقبة في العالم العربي تراوح مكانها وتنتظر الخروج إلى النور. ولا يبدو أنه عاد من الممكن حالياً مواصلة تغييب الحريات الأساسية، لأن ذلك يدفع الشعوب إلى مطالبات بدا نموذجها في تونس مفاجئاً وغير متوقع.